فصل: تفسير الآيات رقم (45 - 51)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة الدخان

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ‏}‏ قال قتادة وابن زيد‏:‏ هي ليلة القدر أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم نجومًا في عشرين سنة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي ليلة النصف من شعبان‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا الأصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن عبد الملك بن عبد الملك حدثه أن ابن أبي ذئب واسمه مصعب حدثه عن القاسم بن محمد عن أبيه أو عمه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ينزل الله جل ثناؤه ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لكل نفس إلا إنسانًا في قلبه شحناء أو مشركًا بالله‏"‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏فِيهَا‏}‏ أي في الليلة المباركة، ‏{‏يُفْرَقُ‏}‏ يفصل، ‏{‏كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ محكم، وقال ابن عباس‏:‏ يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج، يقال‏:‏ يحج فلان ‏[‏ويحج فلان‏]‏، قال الحسن ومجاهد وقتادة‏:‏ يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل وعمل وخلق ورزق، وما يكون في تلك السنة‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وتنسخ الأحياء من الأموات فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له ولقد أخرج اسمه في الموتى‏"‏‏.‏

وروى أبو الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 9‏]‏

‏{‏أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْرًا‏}‏ أي أنزلنا أمرًا، ‏{‏مِنْ عِنْدِنَا‏}‏ قال الفراء‏:‏ نصب على معنى‏:‏ فيها يفرق كل أمر فرقًا وأمرًا، أي نأمر ببيان ذلك أمرًا ‏{‏إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ‏}‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء‏.‏

‏{‏رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ رأفة مني بخلقي ونعمتي عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة، ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ قرأ أهل الكوفة‏:‏ ‏"‏رب‏"‏ جرًّا، ردًا على قوله‏:‏ ‏"‏من ربك‏"‏، ورفعه الآخرون ردًا على قوله‏:‏ ‏"‏هو السميع العليم‏"‏، وقيل‏:‏ على الابتداء، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ‏}‏ أن الله رب السموات والأرض‏.‏

‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ‏}‏ من هذا القرآن، ‏{‏يَلْعَبُونَ‏}‏ يهزؤون به لاهون عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 12‏]‏

‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ‏}‏ اختلفوا في هذا الدخان‏:‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن كثير، عن سفيان، حدثنا منصور والأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال‏:‏ بينما رجل يحدث في كندة، فقال‏:‏ يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمن ‏[‏كهيئة‏]‏ الزكام، ففزعنا فأتيت ابن مسعود وكان متكئًا فغضب فجلس، فقال‏:‏ من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل‏:‏ الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم‏:‏ لا أعلم، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين‏"‏ ‏[‏ص - 86‏]‏، وإن قريشًا أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏اللهم أَعِنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف‏"‏ فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاء أبو سفيان فقال‏:‏ يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فقرأ‏:‏ ‏"‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏إنكم عائدون‏"‏، أفيكشف عنهم عذاب الآخرة إذا جاء‏؟‏ ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى‏}‏ يعني يوم بدر و ‏{‏لزامًا‏}‏ يوم بدر، ‏"‏آلم غلبت الروم‏"‏، إلى ‏"‏سيغلبون‏"‏ ‏[‏الروم - 3‏]‏، الروم قد مضى‏.‏

ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى عن وكيع عن الأعمش، قال‏:‏ قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ‏}‏ فقيل له‏:‏ إن كشفنا عنهم عادوا إلى كفرهم، فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله‏:‏ ‏"‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين‏"‏، إلى قوله‏:‏ ‏"‏إنا منتقمون‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله قال‏:‏ خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان‏.‏

وقال قوم‏:‏ هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت بعد، فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين حتى يكون كالرأس الحنيذ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عقيل بن محمد الجرجاني، حدثنا أبو الفرج المعافي بن زكريا البغدادي، حدثنا محمد بن جرير الطبري، حدثني عصام بن رواد بن الجراح، حدثنا أبي، أخبرنا أبو سفيان بن سعيد، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال‏:‏ سمعت حذيفة بن اليمان يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أول الآيات الدخان، ونزول عيسى بن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا‏"‏، قال حذيفة‏:‏ يا رسول الله وما الدخان‏؟‏ فتلا هذه الآية‏:‏ ‏"‏يوم تأتي السماء بدخان مبين‏"‏، يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يومًا وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر فكمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 18‏]‏

‏{‏أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى‏}‏ من أين لهم التذكر والاتعاظ‏؟‏ يقول‏:‏ كيف يتذكرون ويتعظون‏؟‏ ‏{‏وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ‏}‏ ظاهر الصدق يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ‏}‏ أعرضوا عنه، ‏{‏وَقَالُوا مُعَلَّمٌ‏}‏ أي يعلمه بشر، ‏{‏مَجْنُونٌ‏}‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ‏}‏ أي عذاب الجوع، ‏{‏قَلِيلا‏}‏ أي زمانًا يسيرًا، قال مقاتل‏:‏ إلى يوم بدر‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ عَائِدُونَ‏}‏ إلى كفركم‏.‏

‏{‏يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى‏}‏ وهو يوم بدر، ‏{‏إِنَّا مُنْتَقِمُونَ‏}‏ وهذا قول ابن مسعود وأكثر العلماء، وقال الحسن‏:‏ يوم القيامة، وروى عكرمة ذلك عن ابن عباس‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا‏}‏ بلونا، ‏{‏قَبْلَهُمْ‏}‏ قبل هؤلاء، ‏{‏قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ‏}‏ على الله وهو موسى بن عمران‏.‏

‏{‏أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ‏}‏ يعني بني إسرائيل أطلقهم ولا تعذبهم، ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ‏}‏ على الوحي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 27‏]‏

‏{‏وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏19‏)‏ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ‏(‏21‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ‏(‏22‏)‏ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ‏(‏24‏)‏ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏25‏)‏ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏26‏)‏ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ‏}‏ لا تتجبروا عليه بترك طاعته، ‏{‏إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ ببرهان بَيِّن على صدق قولي، فلما قال ذلك توعدوه بالقتل، فقال‏:‏

‏{‏وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ‏}‏ أي‏:‏ تقتلوني، وقال ابن عباس‏:‏ تشتموني وتقولوا هو ساحر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ترجموني بالحجارة‏.‏

‏{‏وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ‏}‏ فاتركوني لا معي ولا علي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ فاعتزلوا أذاي باليد واللسان، فلم يؤمنوا‏.‏

‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ‏}‏ مشركون، فأجابه الله وأمره أن يسري، فقال‏:‏

‏{‏فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا‏}‏ أي ببني إسرائيل، ‏{‏إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ‏}‏ يتبعكم فرعون وقومه‏.‏

‏{‏وَاتْرُكِ الْبَحْرَ‏}‏ إذا قطعته أنت وأصحابك، ‏{‏رَهْوًا‏}‏ ساكنًا على حالته وهيئته، بعد أن ضربته ودخلته، معناه‏:‏ لا تأمره أن يرجع، اتركه حتى يدخله آل فرعون، وأصل ‏"‏الرهو‏"‏‏:‏ السكون‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ معناه‏:‏ اترك البحر رهوًا ‏[‏راهيا‏]‏ أي‏:‏ ساكنًا، فسمي بالمصدر، أي ذا رهو‏.‏ وقال كعب‏:‏ اتركه طريقًا‏.‏ قال قتادة‏:‏ طريقًا يابسًا‏.‏ قال قتادة‏:‏ لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون ‏[‏وجنوده‏]‏ فقيل له‏:‏ اترك البحر رهوًا كما هو، ‏{‏إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ‏}‏ أخبر موسى أنه يغرقهم ليطمئن قلبه في تركه البحر كما جاوزه‏.‏ ثم ذكر ما تركوا بمصر‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُوا‏}‏ ‏[‏يعني بعد الغرق‏]‏ ‏{‏مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ مجلس شريف، قال قتادة‏:‏ الكريم الحسن‏.‏

‏{‏وَنَعْمَةٍ‏}‏ ومتعة وعيش لين، ‏{‏كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ‏}‏ ناعمين وفكهين‏:‏ أشرين بطرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28 - 32‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ‏(‏28‏)‏ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَلِكَ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ كذلك أفعل بمن عصاني، ‏{‏وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ‏}‏ يعني بني إسرائيل‏.‏

‏{‏فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ‏}‏ وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحًا، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده، ولا لهم على الأرض عمر صالح فتبكي الأرض عليه‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عبد الله الفنجوي، حدثنا أبو علي المقري، حدثنا أبو يعلي الموصلي، حدثنا أحمد بن إسحاق البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة الرَّبذي، أخبرني يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه‏"‏ وتلا ‏"‏فما بكت عليهم السماء والأرض‏"‏‏.‏

قال عطاء‏:‏ بكاء السماء حمرة أطرافها‏.‏

قال السدي‏:‏ لما قتل الحسين بن علي بكت عليه السماء، وبكاؤها حمرتها‏.‏

‏{‏وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ‏}‏ لم ينظروا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ‏}‏ قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل‏.‏

‏{‏مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ‏}‏ يعني مؤمني بني إسرائيل، ‏{‏عَلَى عِلْمٍ‏}‏ بهم، ‏{‏عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ على عالمي زمانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 37‏]‏

‏{‏وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ‏}‏ قال قتادة‏:‏ نعمة بينة من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، والنعم التي أنعمها عليهم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ابتلاهم بالرخاء والشدة، وقرأ‏:‏ ‏"‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏"‏ ‏[‏الأنبياء - 35‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلاءِ‏}‏ يعني مشركي مكة ‏{‏لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى‏}‏ أي لا موتة إلا هذه التي نموتها في الدنيا، ثم لا بعث بعدها‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ‏}‏ بمبعوثين بعد موتتنا‏.‏

‏{‏فَأْتُوا بِآبَائِنَا‏}‏ ‏[‏الذين ماتوا‏]‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أنا نبعث أحياء بعد الموت، ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية فقال‏:‏ ‏{‏أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ‏}‏ أي ليسوا خيرًا منهم، يعني أقوى وأشد وأكثر من قوم تبع‏.‏ قال قتادة‏:‏ هو تبع الحميري، وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة، وبنى سمرقند وكان من ملوك اليمن، سمي تبعًا لكثرة أتباعه، وكل واحد منهم يسمى‏:‏ ‏"‏تبعا‏"‏ لأنه يتبع صاحبه، وكان هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام وهم حمير، فكذبوه وكان من خبره ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره‏.‏

وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا‏:‏ كان تبع الآخر وهو أسعد أبو كرب بن مليك ‏[‏جاء بكر‏]‏ حين أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة، وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنًا له فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا ذلك من أمره، فخرجوا لقتاله وكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل، فأعجبه ذلك وقال‏:‏ إن هؤلاء لكرام، إذ جاءه حبران اسمهما‏:‏ كعب وأسد من أحبار بني قريظة، عالمان وكانا ابني عم، حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له‏:‏ أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة‏.‏ فإنها مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد، مولده مكة، وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت به يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه، وفي عدوهم‏.‏ قال تبع‏:‏ من يقاتله وهو نبي‏؟‏ قالا يسير إليه قومه فيقتلون ها هنا، فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة، ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن، فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا‏:‏ إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة، قال‏:‏ أي بيت‏؟‏ قالوا‏:‏ بيت بمكة، وإنما تريد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد قط بسوء إلا هلك، فذكر ذلك للأحبار، فقالوا‏:‏ ما نعلم لله في الأرض بيتا غير هذا البيت، فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك، وما أراد القوم إلا هلاكك لأنه ما ناوأهم أحد قط إلا هلك، فأكرمه واصنع عنده ما يصنع أهله، فلما قالوا له ذلك أخذ النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم، فلما قدم مكة نزل الشعب شعب البطائح، وكسا البيت الوصائل، وهو أول من كسا البيت، ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة، وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق وانصرف، فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بين ذلك وبينه، قالوا‏:‏ لا تدخل علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه وقال إنه دين خير من دينكم، قالوا‏:‏ فحاكمنا إلى النار، وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه، فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم، فقال تبع‏:‏ أنصفتم، فخرج القوم بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه، فخرجت النار فأقبلت حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، يتلوان التوراة تعرق جباههما لم تضرهما، ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، فمن هنالك كان أصل اليهودية في اليمن‏.‏

وذكر أبو حاتم عن الرقاشي قال‏:‏ كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة‏.‏

وذكر لنا أن كعبًا كان يقول‏:‏ ذم الله قومه ولم يذمه‏.‏

وكانت عائشة تقول‏:‏ لا تسبوا تبعًا فإنه كان رجلا صالحًا‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو الذي كسا البيت‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن سهل بن سعد قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا تسبوا تبعًا فإنه كان قد أسلم‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن علي بن سالم الهمداني، حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما أدري تبع نبيًا كان أو غير نبي‏"‏‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ من الأمم الكافرة‏.‏ ‏{‏أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 44‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الأثِيمِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ‏}‏ قيل‏:‏ يعني للحق وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية‏.‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ‏}‏ يوم يفصل الرحمن بين العباد، ‏{‏مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون‏.‏

‏{‏يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا‏}‏ لا ينفع قريب قريبه ولا يدفع عنه شيئًا، ‏{‏وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏ لا يمنعون من عذاب الله‏.‏

‏{‏إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ‏}‏ يريد المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض، ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ‏}‏ في انتقامه من أعدائه، ‏{‏الرَّحِيمُ‏}‏ بالمؤمنين‏.‏

‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ‏}‏ ‏[‏أي ذي الإثم‏]‏ وهو أبو جهل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 51‏]‏

‏{‏كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏كَالْمُهْلِ‏}‏ هو دردي الزيت الأسود، ‏{‏يَغْلِي فِي الْبُطُونِ‏}‏ قرأ ابن كثير وحفص ‏"‏يغلي‏"‏ بالياء، جعلوا الفعل للمهل، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الشجرة، ‏"‏في البطون‏"‏ أي بطون الكفار، ‏{‏كَغَلْيِ الْحَمِيمِ‏}‏ كالماء الحار إذا اشتد غليانه‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو بكر العبدوسي، أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد بن يزيد، حدثنا سليمان بن يوسف، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أيها الناس اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرَّتْ على أهل الدنيا معيشتهم، فكيف بمن تكون طعامه وليس لهم طعام غيره‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ‏}‏ أي يقال للزبانية‏:‏ خذوه، يعني الأثيم، ‏{‏فَاعْتِلُوهُ‏}‏ قرأ أهل الكوفة، وأبو جعفر، وأبو عمرو‏:‏ بكسر التاء، وقرأ الباقون بضمها، وهما لغتان، أي ادفعوه وسوقوه، يقال‏:‏ عتله يعتله عتلا إذا ساقه بالعنف والدفع والجذب، ‏{‏إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ‏}‏ وسطه‏.‏

‏{‏ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ‏}‏ قال مقاتل، إن خازن النار يضربه على رأسه فينقب رأسه عن دماغه، ثم يصب فيه ماء حميمًا قد انتهى حره‏.‏

ثم يقال له‏:‏ ‏{‏ذُقْ‏}‏ هذا العذاب، ‏{‏إِنَّكَ‏}‏ قرأ الكسائي ‏"‏أنك‏"‏ بفتح الألف، أي لأنك كنت تقول‏:‏ أنا العزيز، وقرأ الآخرون بكسرها على الابتداء، ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ‏}‏ عند قومك بزعمك، وذلك أن أبا جهل كان يقول‏:‏ أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم، فيقول له هذا خزنة النار، على طريق الاستحقار والتوبيخ‏.‏

‏{‏إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ‏}‏ تشكون فيه ولا تؤمنون به‏.‏ ثم ذكر مستقر المتقين، فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام‏:‏ ‏"‏في مقام‏"‏ بضم الميم على المصدر، أي في إقامة، وقرأ الآخرون بفتح الميم، أي في مجلس أمين، أمنوا فيه من الغير، أي من الموت ومن الخروج منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52 - 59‏]‏

‏{‏فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏ فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ‏}‏ أي كما أكرمناهم بما وصفنا من الجنات والعيون واللباس كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم، ‏{‏بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ أي قرناهم بهن، ليس من عقد التزويج، لأنه لا يقال‏:‏ زوجته بامرأة، قال أبو عبيدة‏:‏ جعلناهم أزواجًا لهن كما يزوج البعل بالبعل، أي جعلناهم اثنين اثنين، و‏"‏الحور‏"‏‏:‏ هن النساء النقيات البياض‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يحار فيهن الطرف من بياضهن وصفاء لونهن‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏"‏الحور‏"‏‏:‏ هن شديدات بياض الأعين الشديدات سوادها، واحدها أحور، والمرأة حوراء، و‏"‏العين‏"‏ جمع العيناء، وهي عظيمة العينين‏.‏

‏{‏يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ‏}‏ اشتهوها، ‏{‏آمِنِينَ‏}‏ من نفادها ومن مضرتها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ آمنين من الموت والأوصاب والشياطين‏.‏

‏{‏لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى‏}‏ أي سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا، وبعدها وضع‏:‏ ‏"‏إلا‏"‏ موضع سوى وبعد، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف‏"‏ ‏[‏النساء - 22‏]‏، أي سوى ما قد سلف، وبعد ما قد سلف، وقيل‏:‏ إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا من موت في الجنة لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف إلى أسباب الجنة، يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم في الجنة، فكان موتهم في الدنيا كأنهم في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها‏.‏ ‏{‏وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ‏}‏‏.‏

‏{‏فَضْلا مِنْ رَبِّكَ‏}‏ أي فعل ذلك بهم فضلا منه، ‏{‏ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ‏}‏ سهلنا القرآن، كناية عن غير مذكور، ‏{‏بِلِسَانِكَ‏}‏ أي على لسانك، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ يتعظون‏.‏

‏{‏فَارْتَقِبْ‏}‏ فانتظر النصر من ربك‏.‏ وقيل‏:‏ فانتظر لهم العذاب‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ‏}‏

منتظرون قهرك بزعمهم‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن فنجويه، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أبو عيسى موسى بن علي الختلي، حدثنا أبو هاشم الرفاعي، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عمر بن عبد الله بن أبي خثعم، عن يحيى بن كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك‏"‏

سورة الجاثية

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 7‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏حم تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ‏}‏، قرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب‏:‏ ‏"‏آياتٍ‏"‏ وتصريف الرياح آيات‏"‏ بكسر التاء فيهما ردا على قوله‏:‏ ‏"‏لآيات‏"‏ وهو في موضع النصب، وقرأ الآخرون برفعهما على الاستئناف، على أن العرب تقول‏:‏ إن لي عليك مالا وعلى أخيك مال، ينصبون الثاني ويرفعونه، ‏{‏لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ أنه لا إله غيره‏.‏

‏{‏وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ‏}‏ يعني الغيث الذي هو سبب أرزاق العباد، ‏{‏فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ‏}‏ يريد هذا الذي قصصنا عليك من آيات الله نقصها عليك بالحق، ‏{‏فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ‏}‏ بعد كتاب الله، ‏{‏وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ‏}‏ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب‏:‏ ‏"‏تؤمنون‏"‏ بالتاء، على معنى قل لهم يا محمد‏:‏ فبأي حديث تؤمنون، وقرأ الآخرون بالياء‏.‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ كذاب صاحب إثم، يعني‏:‏ النضر بن الحارث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 14‏]‏

‏{‏يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ من القرآن، ‏{‏شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏ وذكر بلفظ الجمع ردا إلى ‏"‏كل‏"‏ في قوله‏:‏ ‏"‏لكل أفاك أثيم‏"‏‏.‏

‏{‏مِنْ وَرَائِهِمْ‏}‏ أمامهم، ‏{‏جَهَنَّمُ‏}‏ يعني أنهم في الدنيا ‏[‏ممتعون بأموالهم‏]‏ ولهم في الآخرة النار يدخلونها، ‏{‏وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا‏}‏ من الأموال، ‏{‏شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ‏}‏ ولا ما عبدوا من دون الله من الآلهة، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏هَذَا‏}‏ يعني هذا القرآن، ‏{‏هُدًى‏}‏ بيان من الضلالة، ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ‏}‏ ومعنى تسخيرها أنه خلقها لمنافعنا‏.‏ فهو مسخر لنا من حيث إنا ننتفع به، ‏{‏جَمِيعًا مِنْهُ‏}‏ فلا تجعلوا لله أندادًا، قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏جميعًا منه‏"‏، كل ذلك رحمة منه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كل ذلك تفضل منه وإحسان‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ‏}‏ أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون نقمته، قال ابن عباس ومقاتل‏:‏ نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وذلك أن رجلا من بني غفار شتمه بمكة فهم عمر - رضي الله تعالى عنه - أن يبطش به، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يعفو عنه‏.‏

وقال القرظي والسدي‏:‏ نزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين، من قبل أن يؤمروا بالقتال، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية ثم نسختها آية القتال‏.‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ قَوْمًا‏}‏ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ‏"‏لنجزي‏"‏ بالنون، وقرأ الآخرون بالياء، أي ليجزي الله، وقرأ أبو جعفر ‏"‏ليجزي‏"‏ بضم الياء الأولى وسكون الثانية وفتح الزاي، قال أبو عمرو‏:‏ وهو لحن، قال الكسائي‏:‏ معناه ليجزي الجزاء قومًا، ‏{‏بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 18‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ‏}‏ التوراة، ‏{‏وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ الحلالات، يعني المن والسلوى، ‏{‏وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ أي عالمي زمانهم، قال ابن عباس لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم‏.‏

‏{‏وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ‏}‏ يعني العلم بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وما بين لهم من أمره، ‏{‏فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكَ‏}‏ ‏[‏يا محمد‏]‏ ‏{‏عَلَى شَرِيعَةٍ‏}‏ سنة وطريقة بعد موسى، ‏{‏مِنَ الأمْرِ‏}‏ من الدين، ‏{‏فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني مراد الكافرين، وذلك أنهم كانوا يقولون له‏:‏ ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك، فقال جل ذكره‏:‏

‏{‏إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 22‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئًا‏]‏ إن اتبعت أهواءهم، ‏{‏وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏هَذَا‏}‏ يعني القرآن، ‏{‏بَصَائِرُ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏معالم للناس‏]‏ في الحدود والأحكام يبصرون بها، ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ‏}‏ ‏[‏بل حسب‏]‏ ‏{‏الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ‏}‏ اكتسبوا المعاصي والكفر ‏{‏أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ نزلت في نفر من مشركي مكة، قالوا للمؤمنين‏:‏ لئن كان ما تقولون حقًا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا‏.‏ ‏{‏سَوَاءً مَحْيَاهُمْ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب‏:‏ ‏"‏سواء‏"‏ بالنصب، أي‏:‏ نجعلهم سواء، يعني‏:‏ أحسبوا أن حياة الكافرين ‏{‏وَمَمَاتُهُمْ‏}‏ كحياة المؤمنين وموتهم سواء كلا وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء والخبر أي محياهم ومماتهم سواء فالضمير فيهما يرجع إلى المؤمنين والكافرين جميعًا، معناه‏:‏ المؤمن مؤمن محياه ومماته أي في الدنيا والآخرة، والكافر كافر في الدنيا والآخرة، ‏{‏سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ بئس ما يقضون، قال مسروق‏:‏ قال لي رجل من أهل مكة‏:‏ هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو كاد أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي‏.‏ ‏"‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات‏"‏ الآية‏.‏

‏{‏وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 - 24‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ قال ابن عباس والحسن وقتادة‏:‏ ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئًا إلا ركبه لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه، ولا يحرم ما حرم الله‏.‏ وقال آخرون‏:‏ معناه اتخذ معبوده هواه فيعبد ما تهواه نفسه‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة، فإذا وجدوا شيئًا أحسن من الأول رموه أو كسروه، وعبدوا الآخر‏.‏

قال الشعبي‏:‏ إنما سمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه في النار‏.‏

‏{‏وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ منه بعاقبة أمره، وقيل على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، ‏{‏وَخَتَمَ‏}‏ طبع، ‏{‏عَلَى سَمْعِهِ‏}‏ فلم يسمع الهدى، ‏{‏وَقَلْبِهِ‏}‏ فلم يعقل الهدى، ‏{‏وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ‏"‏غشوة‏"‏ بفتح الغين وسكون الشين، والباقون ‏"‏غشاوة‏"‏ ظلمة فهو لا يبصر الهدى، ‏{‏فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏أي فمن يهديه‏]‏ بعد أن أضله الله، ‏{‏أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالُوا‏}‏ يعني منكري البعث، ‏{‏مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا‏}‏ أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، ‏{‏نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏ أي يموت الآباء ويحيا الأبناء، وقال الزجاج‏:‏ يعني نموت ونحيا، فالواو للاجتماع، ‏{‏وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ‏}‏ أي وما يفنينا إلا مَرُّ الزمان وطول العمر واختلاف الليل والنهار‏.‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ‏}‏ الذي قالوه، ‏{‏مِنْ عِلْمٍ‏}‏ أي لم يقولوه عن علم ‏[‏علموه‏]‏ ‏{‏إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد محمش الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قال الله تعالى‏:‏ لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، حدثنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن أيوب عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يسب أحدكم الدهر ‏[‏فإن الله هو الدهر‏]‏، ولا يقولن للعنب الكرم، فإن الكرم هو الرجل المسلم‏"‏‏.‏

ومعنى الحديث‏:‏ أن العرب كان من شأنهم ذم الدهر، وسبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون‏:‏ أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، كما أخبر الله تعالى عنهم‏:‏ ‏"‏وما يهلكنا إلا الدهر‏"‏ فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان مرجع سبهم إلى الله عز وجل، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر، ‏[‏فنهوا عن سب الدهر‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 28‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏أي ليوم القيامة‏]‏، ‏{‏لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ‏}‏ يعني الكافرين الذين هم أصحاب الأباطيل، يظهر في ذلك اليوم خسرانهم بأن يصيروا إلى النار‏.‏

‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ باركة على الركب، وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء‏.‏

قال سلمان الفارسي‏:‏ إن في القيامة ساعة هي عشر سنين، يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إبراهيم عليه السلام ينادي ربه‏:‏ لا أسألك إلا نفسي‏.‏

‏{‏كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا‏}‏ الذي فيه أعمالها، وقرأ يعقوب ‏"‏كل أمة‏"‏ نصب، ويقال لهم‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 32‏]‏

‏{‏هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏هَذَا كِتَابُنَا‏}‏ يعني ديوان الحفظة، ‏{‏يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ‏}‏ يشهد عليكم ببيان شاف، فكأنه ينطق وقيل‏:‏ المراد بالكتاب اللوح المحفوظ‏.‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم أي بكتبها وإثباتها عليكم‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏نستنسخ‏"‏ أي نأخذ نسخته، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان، فيثبت الله منه ما كان له فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو نحو قولهم‏:‏ هلم واذهب‏.‏

وقيل‏:‏ الاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، والاستنساخ لا يكون إلا من أصل، فينسخ كتاب من كتاب‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ نستنسخ أي نثبت‏.‏ وقال السدي‏:‏ نكتب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ نحفظ‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏الظفر‏]‏ الظاهر‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يقال لهم، ‏{‏أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ‏}‏ متكبرين كافرين‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا‏}‏ قرأ حمزة‏:‏ ‏"‏والساعة‏"‏ نصب عطفها على الوعد، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء، ‏{‏قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا‏}‏ أي ما نعلم ذلك إلا حدسًا وتوهمًا‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ‏}‏ أنها كائنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 37‏]‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ‏}‏ ‏[‏في الآخرة‏]‏ ‏{‏سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا‏}‏ في الدنيا أي جزاؤها ‏{‏وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ‏}‏ نترككم في النار، ‏{‏كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا‏}‏ تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم، ‏{‏وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏‏.‏ ‏{‏ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا‏}‏ حتى قلتم‏:‏ لا بعث ولا حساب، ‏{‏فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا‏}‏ قرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الراء، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء، ‏{‏وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله، لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذرًا ولا توبة‏.‏

‏{‏فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ‏}‏ العظمة، ‏{‏فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، حدثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الشرقي، حدثنا أحمد بن حفص وعبد الله بن محمد الفراء وقطن بن إبراهيم قالوا، أخبرنا حفص بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقول الله عز وجل‏:‏ الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما أدخلته النار‏"‏‏.‏

سورة الأحقاف

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏حم تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏، يعني يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض، وهو إشارة إلى فنائهما، ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا‏}‏ خوفوا به في القرآن من البعث والحساب، ‏{‏مُعْرِضُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا‏}‏ أي بكتاب جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون، ‏{‏أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ أي بقية من علم يؤثر عن الأولين، أي يسند إليهم‏.‏ قال مجاهد وعكرمة ومقاتل‏:‏ رواية عن الأنبياء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ خاصة من علم‏.‏ وأصل الكلمة من الأثر وهو الرواية، يقال‏:‏ أثرت الحديث أثرًا وأثارة، ومنه قيل للخبر‏:‏ أثر‏.‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ‏}‏ يعني الأصنام لا تجيب عابديها إلى شيء يسألونها، ‏{‏إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ أبدًا ما دامت الدنيا، ‏{‏وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ‏}‏ لأنها جماد لا تسمع ولا تفهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 9‏]‏

‏{‏وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ‏}‏ جاحدين، بيانه قوله‏:‏ ‏"‏تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون‏"‏ ‏[‏القصص - 63‏]‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏ يسمون القرآن سحرًا‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ‏}‏ محمد من قبل نفسه، فقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏}‏ لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي، فكيف أفتري على الله من أجلكم، ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه إنه سحر‏.‏ ‏{‏كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أن القرآن جاء من عنده، ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ في تأخير العذاب عنكم، قال الزجاج‏:‏ هذا دعاء لهم إلى التوبة، معناه‏:‏ إن الله عز وجل غفور لمن تاب منكم رحيم به‏.‏

‏{‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ‏}‏ أي بديعًا، مثل‏:‏ نصف ونصيف، وجمع البدع أبداع، لست بأول مرسل، قد بعث قبلي كثير من الأنبياء، فكيف تنكرون نبوتي‏.‏ ‏{‏وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ‏}‏ اختلف العلماء في معنى هذه الآية‏:‏

فقال بعضهم‏:‏ معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة، فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون، فقالوا‏:‏ واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد، وما له علينا من مزية وفضل، ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فأنزل الله‏:‏ ‏"‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏"‏، ‏[‏الفتح - 2‏]‏ فقالت الصحابة‏:‏ هنيئًا لك يا نبي الله قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات‏"‏ الآية، ‏[‏الفتح - 5‏]‏ وأنزل‏:‏ ‏"‏وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرًا‏"‏ ‏[‏الأحزاب - 47‏]‏ فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم‏.‏ وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة، قالوا‏:‏ إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه ‏[‏وإنما أخبر بغفران ذنبه‏]‏ عام الحديبية، فنسخ ذلك‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن خارجة بن زيد قال‏:‏ كانت أم العلاء الأنصارية تقول‏:‏ لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكنتهم، قالت ‏[‏فطار لنا‏]‏ عثمان بن مظعون في السكنى، فمرض فمرضناه، ثم توفي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل فقلت‏:‏ رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي قد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما يدريك أن الله قد أكرمه‏"‏‏؟‏ فقلت‏:‏ لا والله لا أدري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم‏"‏ قالت‏:‏ فوالله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا، قالت‏:‏ ثم رأيت لعثمان بعد في النوم عينًا تجري فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ذاك عمله‏"‏‏.‏

وقال جماعة‏:‏ قوله ‏"‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏"‏ في الدنيا، أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة، وأن من كذبه فهو في النار، ثم اختلفوا فيه‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم وهو بمكة أرضا ذات سباخ ونخل رفعت له، يهاجر إليها، فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت‏؟‏ فسكت، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏"‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏"‏، أأترك في مكاني أم أخرج وإياكم إلى الأرض التي رفعت لي‏؟‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ‏"‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏"‏ إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا، بأن أقيم معكم في مكانكم أم أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي، أم أقتل كما قتل الأنبياء، من قبلي وأنتم أيها المصدقون لا أدري تخرجون معي أم تتركون، أم ماذا يفعل بكم، ‏[‏وأنتم‏]‏ أيها المكذبون، أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم، أم أي شيء يفعل بكم، مما فعل بالأمم المكذبة‏؟‏‏.‏

ثم أخبر الله عز وجل أنه يظهر دينه على الأديان، فقال‏:‏ ‏"‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله‏"‏، ‏[‏الصف - 9‏]‏ وقال في أمته‏:‏ ‏"‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏"‏ ‏[‏الأنفال - 33‏]‏، فأخبر الله ما يصنع به وبأمته، هذا قول السدي‏.‏

‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ‏}‏ أي ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع من عندي شيئًا، ‏{‏وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ‏}‏ معناه‏:‏ أخبروني ماذا تقولون، ‏{‏إِنْ كَانَ‏}‏ يعني القرآن، ‏{‏مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ‏}‏ أيها المشركون، ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ‏}‏ المثل‏:‏ صلة، يعني‏:‏ عليه، أي على أنه من عند الله ‏{‏فَآمَنَ‏}‏ يعني الشاهد، ‏{‏وَاسْتَكْبَرْتُمْ‏}‏ عن الإيمان به، وجواب قوله‏:‏ ‏"‏إن كان من عند الله‏"‏ محذوف، على تقدير‏:‏ أليس قد ظلمتم‏؟‏ يدل على هذا المحذوف قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ وقال الحسن‏:‏ جوابه‏:‏ فمن أضل منكم، كما قال في سورة السجدة‏.‏

واختلفوا في هذا الشاهد، قال قتادة والضحاك‏:‏ هو عبد الله بن سلام، شهد على نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وآمن به، واستكبر اليهود فلم يؤمنوا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكير، حدثنا حميد، عن أنس قال‏:‏ ‏"‏سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي‏:‏ فما أول أشراط الساعة‏؟‏ وما أول طعام أهل الجنة‏؟‏ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه‏؟‏ قال‏:‏ أخبرني بهن جبريل آنفًا، قال‏:‏ جبريل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية‏:‏ ‏"‏قل من كان عدوًا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله‏"‏ ‏[‏البقرة - 97‏]‏، فأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت، قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ‏[‏يا رسول الله‏]‏ إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال‏:‏ أي رجل عبد الله فيكم‏؟‏ قالوا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال‏:‏ أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام‏؟‏ قالوا‏:‏ أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله، فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقالوا‏:‏ شرنا وابن شرنا، فانتقصوه، قال‏:‏ هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن يوسف قال‏:‏ سمعت مالكًا يحدث عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال‏:‏ ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت هذه الآية‏:‏ ‏"‏وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله‏"‏‏.‏ قال‏:‏ لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ الشاهد هو موسى بن عمران‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ قال مسروق في هذه الآية‏:‏ والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأن ال حم نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة، ونزلت هذه الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه، ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد صلى الله عليه وسلم على الفرقان، وكل واحد يصدق الآخر‏.‏

وقيل‏:‏ هو نبي من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم فلم تؤمنوا ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 14‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ من اليهود، ‏{‏لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ‏}‏ ‏[‏دين محمد صلى الله عليه وسلم‏]‏ ‏{‏خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ يعني عبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ نزلت في مشركي مكة، قالوا‏:‏ لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ الذين كفروا‏:‏ أسد وغطفان، قالوا للذين آمنوا يعني‏:‏ جهينة ومزينة‏:‏ لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا إليه رعاء البهم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ‏}‏ يعني بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان ‏{‏فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ كما قالوا أساطير الأولين‏.‏

‏{‏وَمِنْ قَبْلِهِ‏}‏ أي ومن قبل القرآن، ‏{‏كِتَابُ مُوسَى‏}‏ يعني التوراة، ‏{‏إِمَامًا‏}‏ يقتدى به، ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ من الله لمن آمن به، ونُصِبَا على الحال عن الكسائي، وقال أبو عبيدة‏:‏ فيه إضمار، أي جعلناه إمامًا ورحمة، وفي الكلام محذوف، تقديره‏:‏ وتقدمه كتاب موسى إمامًا ولم يهتدوا به، كما قال في الآية الأولى‏:‏ ‏"‏وإذ لم يهتدوا به‏"‏‏.‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ‏}‏ أي القرآن مصدق للكتب التي قبله، ‏{‏لِسَانًا عَرَبِيًّا‏}‏ نصب على الحال، وقيل بلسان عربي، ‏{‏لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ يعني مشركي مكة، قرأ أهل الحجاز والشام ويعقوب‏:‏ ‏"‏لتنذر‏"‏ بالتاء على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ الآخرون بالياء يعني الكتاب، ‏{‏وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ‏}‏‏"‏وبشرى‏"‏ في محل الرفع، أي هذا كتاب مصدق وبشرى‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 17‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا‏}‏ قرأ أهل الكوفة‏:‏ ‏"‏إحسانا‏"‏ ‏[‏كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وبالوالدين إحسانا‏"‏ ‏[‏البقرة - 83‏]‏ ‏{‏حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا‏}‏ يريد شدة الطلق‏.‏ قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو ‏"‏كرها‏"‏ بفتح الكاف فيهما، وقرأ الآخرون بضمهما‏.‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ‏}‏ فطامه، وقرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏وفصله‏"‏ بغير ألف، ‏{‏ثَلاثُونَ شَهْرًا‏}‏ يريد أقل مدة الحمل، وهي ستة أشهر، وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرًا‏.‏

وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا، وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرًا ‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ نهاية قوته، وغاية شبابه واستوائه، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏‏.‏

وقال السدي والضحاك‏:‏ نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد مضت القصة‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو‏.‏

قال علي بن أبي طالب‏:‏ الآية نزلت في أبي بكر، أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده‏.‏

وكان أبو بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، في تجارة إلى الشام، فلما بلغ أربعين سنة ونبيء النبي صلى الله عليه وسلم آمن به ودعا ربه فـ ‏{‏قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي‏}‏ ألهمني، ‏{‏أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ‏}‏ بالهداية والإيمان، ‏{‏وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وأجابه الله عز وجل، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يرد شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه، ودعا أيضًا فقال‏:‏ ‏{‏وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي‏}‏ فأجابه الله، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعًا، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعًا، فأدرك أبو قحافة النبي صلى الله عليه وسلم، وابنه أبو بكر وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عبد الرحمن أبو عتيق كلهم أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا‏}‏ يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا، وكلها حسن، و‏"‏الأحسن‏"‏ بمعنى الحسن، فيثيبهم عليها، ‏{‏وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ‏}‏ فلا نعاقبهم عليها، قرأ حمزة والكسائي وحفص ‏"‏نتقبل‏"‏ ‏"‏ونتجاوز‏"‏ بالنون، ‏"‏أحسنَ‏"‏ نصب، وقرأ الآخرون بالياء، وضمها ‏"‏أحسنُ‏"‏ رفع‏.‏ ‏{‏فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ‏}‏ مع أصحاب الجنة، ‏{‏وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ‏}‏ وهو قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ ‏[‏التوبة - 72‏]‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ‏}‏ إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث، ‏{‏أُفٍّ لَكُمَا‏}‏ وهي كلمة كراهية، ‏{‏أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ‏}‏ من قبري حيًا، ‏{‏وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي‏}‏ فلم يبعث منهم أحد، ‏{‏وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ‏}‏ يستصرخان ويستغيثان الله عليه، ويقولان له‏:‏ ‏{‏وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا‏}‏ ما هذا الذي تدعواني إليه، ‏{‏إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏ قال ابن عباس والسدي، ومجاهد‏:‏ نزلت في عبد الله‏.‏

وقيل‏:‏ في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى، ويقول‏:‏ أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون‏.‏

وأنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون هذا في عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏

والصحيح أنها نزلت في كافر عاق لوالديه، قاله الحسن وقتادة‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ قول من قال إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، يبطله قوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 – 19‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ‏}‏ الآية، أعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب‏.‏

ومعنى ‏"‏أولئك الذين حق عليهم القول‏"‏‏:‏ وجب عليهم العذاب، ‏{‏فِي أُمَمٍ‏}‏ ‏[‏مع أمم‏]‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يريد من سبق إلى الإسلام، فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو بساعة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ولكلٍّ فضائلُ بأعمالهم فيوفيهم الله جزاء أعمالهم‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏ولكل‏"‏‏:‏ يعني ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين ‏"‏درجات‏"‏ منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم، فيجازيهم عليها‏.‏

قال ابن زيد في هذه الآية‏:‏ درج أهل النار تذهب سفلا ودرج أهل الجنة تذهب علوًا‏.‏

‏{‏وَلِيُوَفِّيَهُمْ‏}‏ قرأ ابن كثير، وأهل البصرة، وعاصم‏:‏ بالياء، وقرأ الباقون بالنون‏.‏ ‏{‏أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ‏}‏ فيقال لهم‏:‏ ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب‏:‏ ‏"‏أأذهبتم‏"‏، بالاستفهام ويهمز ابن عامر همزتين، والآخرون بلا استفهام على الخبر، وكلاهما فصيحان، لأن العرب تستفهم بالتوبيخ، وترك الاستفهام فتقول‏:‏ أذهبت ففعلت كذا‏؟‏ ‏{‏وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا‏}‏ يقول‏:‏ أذهبتم طيباتكم يعني اللذات وتمتعتم بها‏؟‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ‏}‏ أي العذاب الذي فيه ذل وخزي، ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏تتكبرون‏]‏ ‏{‏فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ‏}‏ فلما وبخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة‏.‏

وروينا عن عمر قال‏:‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الرمال بجنبه، فقلت‏:‏ يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فقال‏:‏ ‏"‏أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال‏:‏ سمعت عبد الرحمن بن يزيد يحدث، عن الأسود بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن المنصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارًا وما هو إلا الماء والتمر، غير أن جزى الله نساءً من الأنصار خيرًا، كن ربما أهدين لنا شيئًا من اللبن‏.‏

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي، حدثنا ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا، وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير‏.‏

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا روح بن أسلم، حدثنا أبو حاتم البصري، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، ‏[‏حدثنا محمد بن إسماعيل‏]‏ حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ لقد رأيت سبعين من أصحاب الصُّفَّة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني، حدثنا أبو طاهر محمد بن الحارث، حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن مبارك، عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم، ‏[‏عن أبيه إبراهيم‏]‏ أن عبدالرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائمًا، فقال‏:‏ قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، قال‏:‏ وأراه قال‏:‏ وقتل حمزة وهو خير مني، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام‏.‏

وقال جابر بن عبد الله‏:‏ رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلقًا في يدي، فقال‏:‏ ما هذا يا جابر‏؟‏ قلت‏:‏ اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر‏:‏ أو كلما اشتهيت شيئًا يا جابر اشتريت، أما تخاف هذه الآية‏:‏ ‏"‏أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21 - 22‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ‏}‏ يعني هودًا عليه السلام، ‏{‏إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏الأحقاف‏"‏‏:‏ واد بين عمان ومهرة‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له‏:‏ ‏"‏مهرة‏"‏ وإليها تنسب الإبل المهرية، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم‏.‏

قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن عادًا كانوا أحياء باليمن، وكانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها‏:‏ ‏"‏الشحر‏"‏‏.‏ و‏"‏الأحقاف‏"‏ جمع حقف، وهي المستطيل المعوج من الرمال‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا قال الكسائي‏:‏ هي ما استدار من الرمل‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ‏}‏ مضت الرسل، ‏{‏مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ‏}‏ أي من قبل هود، ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ إلى قومهم، ‏{‏أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا‏}‏ ‏[‏لتصرفنا‏]‏ ‏{‏عَنْ آلِهَتِنَا‏}‏ أي عن عبادتها، ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ ‏[‏من العذاب‏]‏ ‏{‏إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ أن العذاب نازل بنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 - 25‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ هود، ‏{‏إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ وهو يعلم متى يأتيكم العذاب ‏{‏وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ‏}‏ من الوحي، ‏{‏وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ‏}‏ يعني ما يوعدون به من العذاب، ‏{‏عَارِضًا‏}‏ سحابًا يعرض أي يبدو في ناحية من السماء ثم يطبق السماء، ‏{‏مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ‏}‏ فخرجت عليهم سحابة سوداء من واد لهم يقال له‏:‏ ‏"‏المغيث‏"‏ وكانوا قد حبس عنهم المطر، فلما رأوها استبشروا، ‏{‏قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا‏}‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فجعلت الريح تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة‏.‏

‏{‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ مرت به من رجال عاد وأموالها، ‏[‏‏{‏بِأَمْرِ رَبِّهَا‏}‏‏]‏ فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجًا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني، أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، أخبرنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أخبرنا النضر‏.‏ حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه بياض لهواته، وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف ذلك في وجهه، فقلت‏:‏ يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية، فقال‏:‏ ‏"‏يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا‏:‏ ‏"‏هذا عارض ممطرنا‏"‏، الآية‏.‏

‏{‏فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ‏}‏ قرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب‏:‏ ‏"‏يرى‏"‏ بضم الياء ‏"‏مساكنهم‏"‏ برفع النون يعني‏:‏ لا يرى شيء إلا مساكنهم، وقرأ الآخرون بالتاء وفتحها، ‏"‏مساكنهم‏"‏ نصب يعني لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم لأن السكان والأنعام بادت بالريح، فلم يبق إلا هود ومن آمن معه‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ‏}‏‏.‏